الإسلام يتحرَّى العدل في كافة شئونه، أحكامه وأهدافه ومقاصده، ولا يحيد عن الطريق القويم أبدًا، حتى في نِسبة السُّوء -سواء للأفراد أو الجماعات- تجد هذه النسبة قرينة للعدل، إما في ذكر مقدار السوء على حقيقته دون زيادة أو نقصان، وإما في إنتقاء الأشخاص الذين لا يَمتُّون لهذا السوء بصلة.
نجد هذا جليًّا في القرآن الكريم، حين ذكر الله سبحانه وتعالى مساوئ بني إسرائيل في سورة الأعراف، فيقرأ القارئ هذه الآيات، فيجد أن هذه الصفات خليقة بأن تجعلهم من أراذل الناس، إلا أن العدل لا ينفك إطلاقًا عن المنهج القرآني، حيث ذكر سبحانه أن طائفةً من هؤلاء برزت كالشعرة البيضاء في جلد ثورٍ أسود، فقال الحق سبحانه: {ومِن قومِ موسى أمةٌ يهدونَ بالحقِّ وبه يعدِلونَ} [الأعراف:١٥٩].
ونجد أيضًا في القرآن الحكيم مثالاً آخر لما ذُكر آنفًا، وهو أنه حينما كان نفاق الأعراب وشدة كفرهم سببان في نزول قرآنٍ يذم هذا المنهج القبيح، نزل أيضًا قرآنٌ يستثني طائفةً من هؤلاء القوم، كان الإيمان قرينهم في كافة الأحوال، وكان الكرم يعبِّر عن طيب نفوسهم، ويندفع صوب هدفٍ سامٍ، وينظر نحو منظر جليل، وهو التقرب إلى الله لا غير، وذلك في قوله تعالى: {ومِن الأعرابِ مَن يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ ويتخذُ ما ينفقُ قُرُباتٍ عندَ اللهِ وصلَواتِ الرسولِ} [التوبة:٩٩].
وأيضًا لَمَّا تطرَّق القرآن لذمِّ النصارى، وذَكَر ادِّعاءاتهم الباطلة في نسبة أنفسهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وذَكَر أنهم ادَّعوا للمسيح عليه السلام البنوَّة للرب سبحانه، مع كل هذه الأفعال الإجرامية، إلا أن الله سبحانه لم يُغفِل طائفةً منهم كانوا ينبذون الكِبْر والأَنَفة، وبلغت الرِّقَّة القلبية عندهم مبلغًا أنهم ما إن يسمعوا الوحي الإلهي إلا وتخرُّ قلوبهم وَجَلاً، وتفيض أعينهم بالدمع، وتبدأ ألسنتهم تلهج بالدعاء له سبحانه أن يكتبهم معَ الشاهدين، وذلك في قوله عز وجل: {ذلك بأن منهم قِسِّيسينَ ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون*وإذا سَمِعوا ما أُنزل إلى الرسولِ ترى أعينَهم تَفيضُ منَ الدمعِ مما عرَفوا منَ الحقِّ يقولون ربَّنا آمنَّا فاكتبْنا مع الشاهدينَ}. [المائدة:٨٢،٨٣].
ونجد أيضًا أن السلف قد نهلوا من معين هذه المعاني، فإستقرَّت في نفوسهم، وإنعكست على ألسنتهم، فلا يخرجون عن العدل في إطلاق أحكامهم، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه -مثلاً- لَمَّا أراد أن يعبِّر عن حالة الردة التي وقع فيها كثير من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قال: لَمَّا تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكَفَرَ مَن كفرَ مِن العَربِ، أخرجه البخاري ومسلم.
ولكننا نجد أن منهج كثيرٍ من الناس قرينٌ بالظلم في كثيرٍ من الأحيان، حيث إن طريقة رجلٍ أو رجلين كافية بإطلاق حكمٍ عام على جهته التي ينتمي إليها، أما باقي القوم -سواء كان منهجهم صحيحًا أو خاطئًا- فلا مجال لذكرهم في الحكم العام، بل يُخَطَّئون ويُدخَلون ضمن الحكم الذي كان مقياسه فعل رجل أو رجلين، وهذا المنهج مخالف للمنهج القرآني في إطلاق الأحكام العامة، ولو كان التعميم في إطلاق الأحكام دونما إستثناء لا شيء فيه، أو كان شيئًا عاديًّا، لما نص القرآن الكريم على أن جزءًا من كل من طائفة سيئة تحلَّى بالحقِّ ونادى به ودعا إليه.
وتتجلَّى فائدة هذه الإستثناءات في أن العاطفة ترى موقفًا معينًا من رجلٍ ما، وتجعله مقياسًا لإطلاق حكم عام على الجهة التي ينتمي إليها، ثم يبدأ اللسان بالْجَوْر بالحيدة عن الطريق الصحيح، ويُدلِف كثيرًا ممن لا علاقة لهم بوجه ذمه في هذا الذم، فيخالف الأمر الربَّاني الذي ينادي بالعدل في كافة الشئون: {إنَّ اللهَ يأمُرُ بالعدلِ} [النحل:٩٠]، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «وهل يكبُّ الناسَ في النارِ على وجوهِهم-أو: على مناخِرِهم- إلا حصائدُ ألسنتِهم؟!» أخرجه الترمذي وغيره.
والقرآن أيضًا لم يكن ليهمِّش هؤلاء الأفراد الذين لا يُعدُّون شيئًا نسبة إلى عموم الطائفة السيئة، فموقفه من بني إسرائيل -مثلاً- كان تبيين الطائفة التي لا علاقة لها بوجه الذم المطلَق لعموم بني إسرائيل، وتبيينه لهذا الموقف لم يقتصر على آية واحدة فقط، بل تواترت الأدلة على تبيين فضلهم، وأنهم لا علاقة لهم بباقي القوم الذين آذَوْا بعض الأنبياء، فمن ذلك قوله تعالى: {ليسُوا سواءً، مِن أهلِ الكتابِ أمةٌ قائمةٌ يتلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ الليلِ وهم يسجُدونَ} [آل عمران:١١٣]، وقوله: {الذينَ آتيناهمُ الكتابَ يتلونَهُ حقَّ تلاوتِهِ} [البقرة:١٢١]، وقوله: {وإنَّ مِن أهلِ الكتابِ لَمَن يؤمنُ باللهِ وما أُنزل إليكم وما أُنزل إليهم خاشعينَ للهِ لا يشترونَ بآياتِ اللهِ ثمنًا قليلاً} [آل عمران:١٩٩]، فهذا مما يدل على خطورة إطلاق الأحكام العامة دونما إستثناء، وعلى ضرورة تبيين موقف مَن لا صلةَ لهم بوجه الذم.
هذا وقد يتخذ بعض الناس موقفًا ضد جهةٍ ما بالتهميش المطلق، والإستحقار التام، لا لسببٍ سوى أنه رأى أن بعضًا ممن ينتمي لهذه الجهة قد وقف موقفًا سلبيًّا، فيقضي ويحكم على الكل بسبب جزء، وهذا لا يُقبل شرعًا ولا عقلاً.
الكاتب: خالد بن صالح الهذلول.
المصدر: موقع نوافذ.